وطن


عندما تتخذ من أحدهم وطناً لك، فإنك تحتسى مرارة الغربة حين يغيب ، وتحتسى مرارة الرعب حين يطول غيابه ، وتحتسى مرارة الموت حين تشعر بأنه قد لا يعود أبداً.

لا أعلم متى ستبحر بين هذه الحروف ؟! ولا أعلم متى ستشم رائحة الحزن المنبعثة منها؟! ولا إلى متى ستظل ؟ ولا متى ستصل إلى عمق الجرح المحفور بين كلماتها؟

بالأمس رحلت، غادرت وطناً كان يحتويني ويحتويك ، واتجهت إلى وطن يحتويك فقط.

بالأمس تسربت من واقعي كقطرات الماء الغالية التي كنت أحتفظ بها من أجل لحظات العطش الواقعية وتركتني للرعب. .. ماذا أفعل لو باغتني العطش وأنت لست معي؟!!

بالأمس غادرتني كما تغادر أشياء أحتاج إليها بقوة كي أبقى على قيد الحلم و الأمل والحياة.

بالأمس نزفت حضورك قطرة قطرة ، ولمحتك تتقاطر مني بسيولة مخيفة كدمي.

بالأمس خرجت من أعمق أعماق حياتي، وتركت بي فـراغــاً شوهني، فراغـاً لا يتسع لأحد أو لشيء، فراغـاً كلما تفقدت عمقه..أدركت كم كان حجمك بي وحولي كبيراً.

بالأمس وجدتني مضطرة إلىالانسلاخ من عالمك بألم لا يعادله إلا ألم الانسلاخ من جلدي الملتصق بي .

بالأمس وجدتني مضطرة إلى التبسـم لك وأنت تلوح لي بكلتا يديـك مودعـاً فـارداً جناحيك للغياب بلا حدود.

بالأمس وجدتني مضطرة إلى تصديق وعد العودة كي أجنب نفسي ذهول فكرة الرحيل بلا عودة، فأرعبني كذب ما صدقت.

بالأمس قصصت عليا قصة الرحيل والحنين والموت عند الحنين، وأحداثا أخرى تلي الحنين..، فأرعبني الانغماس في تفاصيل لا طاقة لي بها.

بالأمس علمتني كيف أن المفاجــأة قد تعصف بنا إذا ما صادفتنا ذات غفلـة، وكأنك تهيئ قلبي لسكتة مفاجئة.

بالأمس سردت عليا حكاية الفارس العاشق المتيم بجنون، وتفاصيل اللحظة الأخيرة بينه وبين معشوقتـه المجنونة به......كأنك تصف لي طعم الاحتضار قبل اللفظة الأخيرة.

بالأمس وصفت لي السواد بدقة متناهية وأسرفت في الوصف وكأنك تصف لي لون الظلام قبل الإغماضة الأخيرة .

بالأمس تجولت في كل أعماقي واتكأت على كل زوايا قلبي وصافحت كل الأحاسيس في داخلي ، وكأنك تترك البصمة الأخيرة في الجولة الأخيرة.

بالأمس ألقيت بي في فم الوحدة الشرسة وتركتني لوحوش الاشتياق، تنهش في قدرتي على البناء من دونك والبقاء من بعدك.

بالأمس أهديتني الحـزن مزيناً بورق ملون...وأهديتني الرعـب ملفوفاً بالحرير ... وأهديتني الألـم مزركشاً بخيوط الذهب .

بالأمس خلفتني بين أكوام البقايا كالبقايا ....وتركتني بين أوراق الحكاية كالركام المهمل ..وكالتفاصيل المنسية.

بالأمس سرقت نفسك من عالمي ، من وجودك الذي عشقك كوجودي.....و أبقيتني بلا أنت.

بالأمس سرقتني منك...ومني ، سرقت أنا من أنا ، وأبقيتني بلا أنا.

ترى هل تدرك أنت مقدار الرعب.. و الصدمة في أن أبقى بلا أنت ،... و بلا أنا؟!!!

كتبت هذه الخاطرة في يوم.....ذكرى رحيل والدي الغالي رحمه الله......الرابعة

7/يناير/ 2005م.....

Comments

Popular posts from this blog

أين أنت يا ... أبي؟؟؟

أحبــــك

هذه رومانسية ... وهذا حب ...